سورة الطلاق - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الطلاق)


        


{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)}
{أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها بقوله تعالى: {فاتقوا الله ياأولى الالباب} كأنه قيل: أعد الله تعالى لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك يا أولى الألباب داعيًا لتقوى الله تعالى وحذر عقابه، وقال الكلبي: الكلام على التقديم والتأخير، والمراد {فَيُعَذّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والبلايا {فحاسبناها حِسَابًا شَدِيدًا} في الآخرة.
والظاهر أن قوله تعالى: {أَعَدَّ} إلخ عليه تكرير للوعيد أيضًا، وجوز أن يراد بالحساب الشديد استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحائف الحفظة، وبالعذاب النكر ما أصابهم عاجلًا، وتجعل جملة {عَتَتْ} إلخ صفة لقرية، والماضي في {فحاسبناها وعذبناها} على الحقيقة، وخبر {كأين} جملة {المفلحون أَعَدَّ الله} الخ، أو تجعل جملة {عَتَتْ} [الطلاق: 8] إلخ هي الخبر، وجملة {أَعَدَّ الله} إلخ استئناف لبيان أن عذابهم غير منحصر فيما ذكر بل لهم بعده عذاب شديد، وقوله تعالى: {الذين ءامَنُواْ} منصوب باضمار أعني بيانًا للمنادى السابق أو نعت له أو عطف بيان، وفي إبداله منه ضعف لعدم صحة حلوله محله {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} هو النبي صلى الله عليه وسلم عبر به عنه لمواظبته عليه الصلاة والسلام على تلاوة القرآن الذي هو ذكر، أو تبليغه والتذكير به، وقوله تعالى:


{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}
{رَسُولًا} بدلًا منه؛ وعبر عن إرساله بالإنزال ترشيحًا للمجاز، أو لأن الإرسال مسبب عنه فيكون {أَنَزلَ} [الطلاق: 10] مجازًا مرسلًا، وقال أبو حيان: الظاهر أن الذكر هو القرآن، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فإما أن يجعل نفس الذكر مجازًا. أو يكون بدلًا على حذف مضاف أي ذكر رسول، وقيل: هو نعت على حذف ذلك أي ذا رسول، وقيل: المضاف محذوف من الأول أي ذا ذكر {رَسُولًا} فيكون {رَسُولًا} نعتًا لذلك المحذوف أو بدلًا، وقيل: {رَسُولًا} منصوب قدر مثل أرسل رسولًا دل عليه أنزل، ونحا إلى هذا السدي، واختاره ابن عطية، وقال الزجاج. وأبو علي: يجوز أن يكون معمولًا للمصدر الذي هو ذكر كما في قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} [البلد: 14، 15]، وقول الشاعر:
بضرب بالسيوف رؤوس قوم *** أزلنا هامهن عن المقيل
أي {أَنزَلَ الله} تعالى ذكره {رَسُولًا} على معنى أنزل الله عز وجل ما يدل على كرامته عنده وزلفاه، ويراد به على ما قيل: القرآن وفيه تعسف، ومثله جعل {رَسُولًا} بدلًا منه على أنه عنى الرسالة، وقال الكلبي: الرسول هاهنا جبريل عليه السلام، وجعل بدلًا أيضًا من {ذِكْرًا} [الطلاق: 10] وإطلاق الذكر عليه لكثرة ذكره فهو من الوصف بالمصدر مبالغة كرجل عدل أو لنزوله بالذكر وهو القرآن، فبينهما ملابسة نحو الحلول، أو لأنه عليه السلام مذكور في السماوات وفي الأمم، فالمصدر عنى المفعول كما في درهم ضرب الأمير، وقد يفسر الذكر حينئذ بالشرف كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] فيكون كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه، وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله عز وجل كقوله تعالى: {عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ} [التكوير: 20] وفي الكشف إذا أريد بالذكر القرآن وبالرسول جبريل عليه السلام يكون البدل بدل اشتمال، وإذا أريد بالذكر الشرف وغيره يكون من بدل الكل فتدبر.
وقرىء رسول على إضمار هو، وقوله تعالى: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءايات الله مبينات} نعت لرسولًا وهو الظاهر، وقيل: حال من اسم {الله} تعالى، ونسبة التلاوة إليه سبحانه مجازية كبني الأمير المدينة، و{الله إِلاَّ} القرآن، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر على أحد الأوجه، و{مبينات} حال منها أي حال كونها مبينات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام، وقرئ {مبينات} أي بينها الله تعالى كقوله سبحانه: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات} [آل عمران: 118] واللام في قوله تعالى: {لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور} متعلق بأنزل أو بيتلو وفاعل يخرج على الثاني ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام أو ضمريه عز وجل، والمراد بالموصول المؤمنون بعد إنزال الذكر وقبل نزول هذه الآية؛ أو من علم سبحانه وقدر أنه سيؤمن أي ليحصل لهم الرسول أو الله عز وجل ماهم عليه الآن من الايمان والعمل الصالح، أو ليخرج من علم وقدر أنه يؤمن من أنواع الضلالات إلى الهدى، فالمضي إما بالنظر لنزول هذه الآية أو باعتبار علمه تعالى وتقديره سبحانه الأزلي.
{وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} حسا بين في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات.
{يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار} وقرأ نافع. وابن عامر ندخله بنون العظمة وقوله تعالى: {خالدين فِيهَا أَبَدًا} حال من مفعول {يُدْخِلْهُ} والجمع باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، وقوله تعالى: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقًا} حال أخرى منه أو من الضمير في {خالدين} بطريق التداخل، وإفراد ضمير {لَهُ} باعتبار اللفظ أيضًا، وفيه معنى التعجيب والتعظيم لما رزقه الله تعالى المؤمنين من الثواب وإلا لم يكن في الأخبار بما ذكر هاهنا كثير فائدة كما لا يخفى.
واستدل أكثر النحويين بهذه الآية على جواز مراعاة اللفظ أولًا. ثم مراعات المعنى. ثم مراعات اللفظ، وزعم بعضهم أن ما فيها ليس كما ذكر لأن الضمير في {خالدين} ليس عائدًا على من كالضمائر قبل، وإنماهو عائد على مفعول يدخل و{خالدين} حال منه، والعامل فيها يدخل لا فعل الشرط وهو كما ترى.


{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
{الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات} مبتدأ وخبر {وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ} أي وخلق من الأرض مثلهن على أن {مِثْلَهُنَّ} مفعول لفعل محذوف. والجملة عطف على الجملة قبلها، وقيل: {مِثْلَهُنَّ} عطف على سبع سماوات، وإليه ذهب الزمخشري، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف وهو مختص بالضرورة عند أبي علي الفارسي، وقرأ المفضل عن عاصم. وعصمة عن أبي بكر {مِثْلَهُنَّ} بالرفع على الابتداء {وَمِنَ الارض} الخبر.
والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف فقال الجمهور: هي هاهنا في كونها سبعًا وكونها طباقًا بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كل أرض سكان من خلق الله عز وجل لا يعلم حقيقتهم إلا الله تعالى، وعن ابن عباس أنهم إما ملائكة. أو جن، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه. والبيهقي في شعب الإيمان. وفي الأسماء والصفات من طريق أبي الضحى عنه أنه قال في الآية: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى، قال الذهبي: إسناده صحيح ولكنه شاذ رة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا. وذكر أبو حيان في البحر نحوه عن الحبر وقال: هذا حديث لا شك في وضعه وهو من رواية الواقدي الكذاب.
وأقول لا مانع عقلًا ولا شرعًا من صحته، والمراد أن في كل أرض خلقًا يرجعون إلى أصل واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدم عليه السلام، وفيه أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم وغيرهما فينا.
وأخرج ابن أبي حاتم. والحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعًا «أن بين كل أرض والتي تليها خمسمائة عام والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد ملك والثانية مسجن الريح والثالثة فيها حجارة جهنم والرابعة فيها كبريتها والخامسة فيها حياتها والسادسة فيها عقاربها والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه يطلقه الله تعالى لمن يشاء» وهو حديث منكر كما قال الذهبي لا يعول عليه أصلًا فلا تغتر بتصحيح الحاكم، ومثله في ذلك أخبار كثيرة في هذا الباب لولا خوف الملل لذكرناها لك لكن كون ما بين كل أرضين خمسمائة سنة كما بين كل سماءين جاء في أخبار معتبرة كما روى الإمام أحمد. والترمذي عن أبي هريرة قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه قال: هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف، قال: هل تدرون ما بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: بينكم وبينها خمسمائة عام، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: سماء وإن بعد ما بينهما خمسمائة سنة؛ ثم قال كذلك حتى عد سبع سموات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وإن فوق ذلك العرش بينه وبين السماء بعدما بين السماءين، ثم قال: هل تدرون ما تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها الأرض، ثم قال: هل تدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن تحتها أرضًا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد صلى الله عليه وسلم سبع أرضين ما بين كل أرضين خمسمائة سنة».
والاخبار في تقدير المسافة بما ذكر بين كل سماءين أكثر من الأخبار في تقديرها بين كل أرضين وأصح، ومنها ما هو مذكور في صحيح البخاري. وغيره من الصحاح، وفيها أيضًا أن ثخن كل سماء خمسمائة عام فقول الرازي في ذلك إنه غير معتبر عند أهل التحقيق كلام لا يخفى بشاعته على من سلك من السنة أقوم طريق، نعم ما حكاه من أن السماء الأولى موج مكفوف. والثانية صخر. والثالثة حديد، والرابعة نحاس. والخامسة فضة. والسادسة ذهب. والسابعة ياقوت ليس عتبر أصلًا ولم يرد بما تضمنه من التفصيل خبر صحيح لكن في قوله: إنه مما يأباه العقل إن أراد به نفي الإمكان عقلًا منع ظاهر، وقال الضحاك: هي في كونها سبعًا بعضها فوق بعض لا في كونها كذلك مع وجود مسافة بين أرض وأرض، واختاره بعضهم زاعمًا أن المراد بهاتيك السبع طبقة التراب الصرفة المجاورة للمركز. والطبقة الطينية. والطبقة المعدنية التي يتكون فيها المعادن. والطبقة الممتزجة بغيرها المنكشفة التي هي مسكن الإنسان ونحوه من الحيوان وفيها ينبت النبات. وطبقة الأدخنة. والطبقة الزمهريرية. وطبقة النسيم الرقيق جدًا، ولا يخفى أنه أشبه شيء بالهذيان، ومثله ما يزعمه بعض الناظرين في كتب العلوم المسماة بالحكمة الجديدة من أن الأرض انفصلت بسبب بعض الحوادث من بعض الأجرام العلوية صغيرة ثم تكونت فوقها طبقة وهكذا حتى صار المجموع سبعًا، وزعم أنهم شاهدوا بين كل طبقة وطبقة آثارًا من مخلوقات مختلفة، وقال أبو طالح: هي في كونها سبعًا لا غير فهي سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار، ويظل جميعها السماء، وروى ذلك عن ابن عباس فالنسبة بين أرض وأرض على هذا نحو نسبة أمريقيا إلى آسيا. أو أوروبا. أو أفريقيا لكن قيل: إن تلك البحار الفارقة لا يمكن قطعها.
وقيل: من الأقاليم السبعة وهي مختلفة الحرارة والبرودة والليل والنهار إلى أمور أخرى، واختاره بعضهم ولا أظنه شيئًا لأن المتبادر اعتبار انفصال أرض عن أرض انفصالًا حقيقيًا في المثلية، وقيل: المثلية في الخلق لا في العدد ولا في غيره فهي أرض واحدة مخلوفة كالسماوات السبع، وأيد بأن الأرض لم تذكر في القرآن إلا موحدة، ورد بأنه قد صح من رواية البخاري.
وغيره «اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن» الحديث، وكذا صح «من غصب قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين» وأصح الأقوال كما قال القرطبي قول الجمهور السابق، وعليه اختلف في مشاهدة أهل ما عدا هذه الأرض السماء واستمدادهم الضوء منها فقيل: إنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها.
وقيل: إنهم لا يشاهدون السماء وأن الله عز وجل خلق لهم ضياءًا يشاهدونه، وروى الإمامية عن بعض الأئمة نحوًا مما قاله الجمهور، أخرج العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا رضي الله تعالى عنه قال: بسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال: هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة، والأرض الثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبة حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال: والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة وعرض الرحمن فوق السماء السابعة، وهو قوله تعالى: {سَبْعَ سموات وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ}الخ.
وأنا أقول بنحو ما قاله الجمهور راجيًا العصمة ممن على محور إرادته تدور أفلاك الأمور: هي سبع أرضين بين كل أرض وأرض منها مسافة عظيمة، وفي كل أرض خلق لا يعلم حقيقتهم إلا الله عز وجل ولهم ضياء يستضيئون به، ويجوز أن يكون عندهم ليل ونهار ولا يتعين أن يكون ضياؤهم من هذه الشمس ولا من هذا القمر، وقد غلب على ظن أكثر أهل الحكمة الجديدة أن القمر عالم كعالم أرضنا هذه وفيه جبال وبحار يزعمون أنهم يحسون بها بواسطة أرصادهم وهم مهتمون بالسعي في تحقيق الأمر فيه فليكن ما نقول به من الأرضين على هذا النحو، وقد قالوا: أيضًا إن هذه الشمس في عالم هي مركز دائرته وبلقيس مملكته عنى أن جميع ما فيه من كواكبهم السيارة تدور عليها فيه على وجه مخصوص ونمط مضبوط، وقد تقرب إليها فيه وتبعد عنها إلى غاية لا يعلمها إلا الله تعالى كواكب ذوات الأذناب، وهي عندهم كثيرة جدًا تتحرك على شكل بيضي وإن الشمس بعالمها من توابع كوكب آخر تدور عليه دوران توابعها من السيارات عليها هو فيما نسمع أحد كواكب النجم، ولهم ظن في أن ذلك أيضًا من توابع كوكب آخر وهكذا، وملك الله تعالى العظيم عظيم لا تكاد تحيط به منطقة الفكر ويضيق عنه نطاق الحصر، وسماء كل عالم كالقمر عندهم ما انتهى إليه هواؤه حتى صار ذلك الجرم في نحو خلاء فيه لا يعارضه ولا يضعف حركته شيء.
والجسم متى تحرك في خلاء لا يسكن لعدم المعارض فليكن كل أرض من هذه الأرضين محمولة بين القدرة بين كل سماءين على نحو ما سمعت عن الرضا على آبائه وعليه السلام، وهناك ما يستضىء به أهلها سابحًا في فلك بحر قدرة الله عز وجل ونسبة كل أرض إلى سمائها نسبة الحلقة إلى الفلاة وكذا نسبة السماء إلى السماء التي فوقها، ويمكن أن تكون الأرضون وكذا السماوات أكثر من سبع. والاقتصار على العدد المذكور الذي هو عدد تام لا يستدعي نفي الزائد فقد صرحوا بأن العدد لا مفهوم له والسماء الدنيا منتهى دائرة يتحرك فيها أعلى كوكب من السيارات وبينها وبين هذه الأرض بعد بعيد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «خمسمائة عام» من باب التقريب للإفهام، ويقرب الأمر إذا اعتبر ذلك بالنسبة إلى الراكب المجد كما وقع في كثير من أخبار فيها تقدير مسافة، وقوله عليه الصلاة والسلام في السماء الدنيا: «موج مكفوف» يمكن أن يكون من التشبيه البليغ في اللطافة ونحوها أو هو على حقيقته والتنوين فيه للنوعية حتى يقوم الدليل العقلي الصحيح على امتناعها، وتزيين هذه السماء بالكواكب لظهورها فيها على ما يشاهد فلا يضر في ذلك كونها كلًا أو بعضًا فوقها أو تحتها، ولم يقم دليل على أن شيئًا من الكواكب مغروز في شيء من السماوات كالفص في الخاتم والمسمار في اللوح، بل في بعض الأخبار ما يدل على خلافه، نعم أكثر الأخبار في أمر السماوات والأرض والكواكب لا يعول عليها كما أشار إليه النسفي في بحر الكلام، وكذا ما قاله قدماء أهل الهيئة ومحدثوهم، وفي كل مما ذهب الفريقان إليه ما يوافق أصولنا وما يخالفه وما شريعتنا ساكتة عنه لم تتعرض له بنفي أو إثبات، وحيث كان من أصولنا أنه متى عارض الدليل العقلي الدليل السمعي وجب تأويل الدليل السمعي للدليل العقلي لأنه أصله ولو أبطل به لزم بطلانه نفسه فالأمر سهل لأن باب التأويل أوسع من فلك الثوابت ولا أرى بأسًا في ارتكاب تأويل بعض الظواهر المستبعدة بما لا يستبعد وإن لم يصل الاستبعاد إلى حد الامتناع إذا تضمن ذلك مصلحة دينية ولم يستلزم مصادمة معلوم من الدين بالضرورة، وقد يلتزم الإبقاء على الظاهر وتفويض الأمر إلى قدرة الله تعالى التي لا يتعاصاها شيء رعاية لأذهان العوام المقيدين بالظواهر الذين يعدون الخروج عنها لا سيما إلى ما يوافق الحكمة الجديدة ضلالًا محضًا وكفرًا صرفًا؛ ورحم الله تعالى امرءًا جب الغيبة عن نفسه.
وقد أخرج عبد بن حميد. وابن الضريس. وابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في هذه الآية قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها، وبالجملة من صدق بسعة ملك الله تعالى وعظيم قدرته عز وجل لا ينبغي أن يتوقف في وجود سبع أرضين على الوجه الذي قدمناه، ويحمل السبع على الأقاليم أو على الطبقات المعدنية والطينية ونحوهما مما تقدم، وليس في ذلك ما يصادم ضروريًا من الدين أو يخالق قطعيًا من أدلة المسلمين، ولعل القول بذلك التعدد هو المتبادر من الآية، وتقتضيه الأخبار، ومع هذا هو ليس من ضروريات الدين فلا يكفر منكره أو المتردد فيه لكن لا أرى ذلك إلا عن جهل بما هو الأليق بالقدرة والأحرى بالعظمة، والله تعالى الموفق للصواب.
{يَتَنَزَّلُ الامر بَيْنَهُنَّ} أي يجري أمر الله تعالى وقضاؤه وقدره عز وجل بينهن وينفذ ملكه فيهن، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن قتادة قال: في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه تعالى وأمر من أمره وقضاء من قضائه عز وجل، وقيل: {يَتَنَزَّلُ الامر بَيْنَهُنَّ} بحياة وموت وغنى وفقر، وقيل: هو ما يدبره سبحانه فيهن من عجيب تدبيره جل شأنه، وقال مقاتل. وغيره: {الامر} هنا الوحي، و{بَيْنَهُنَّ} إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة، والأكثرون على أنه القضاء والقدر كما سبق، وأن {بَيْنَهُنَّ} إشارة إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها؛ وقرأ عيسى. وأبو عمرو في رواية ينزل مضارع نزل مشددًا {الامر} بالنصب أي ينزل الله الأمر {لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} متعلق بخلق أو بيتنزل أو ضمر يعمهما أي فعل ذلك لتعلموا أن من قدر على ما ذكر قادر على كل شيء، وقيل: التقدير أخبرتكم أو أعلمتكم بذلك لتعلموا، وقرئ ليعلموا بياء الغيبة.
{وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا} لاستحالة صدور هذه الأفاعيل ممن ليس كذلك.

1 | 2 | 3 | 4